وكما مر أن الأصنام نفسها ما عبدت إلا بشبهات، فقوم نوح قالوا: نصور صورهم فنتذكرهم، فإذا تذكرناهم عبدنا الله، والمُشْرِكُونَ في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعرب في ذلك الزمن ورثوا ذلك الشرك عن قوم نوح، وَقَالُوا: ((هَؤُلاءِِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]، وَقَالُوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] وهكذا المُشْرِكُونَ في كل زمان ومكان، شبهات لا تنتهي، وعقول متفاوتة، فما الذي يضبط هذه العقول، وهذه الأهواء؟
فلو أننا قررنا هذه القاعدة التي يقولون وهي: تقديم العقل عَلَى النقل وجعلناه حكماً ومعياراً؛ لأمكن لكل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ سرد رَحِمَهُ اللَّهُ الآيات التي فيها بيان أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالبلاغ المبين، ولهذا قال:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4] لأنه بلغتهم يفهمون كلامه ويقول:ِ ((مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[يوسف:111] وقال:((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89].
والآيات كثيرة في هذا الشأن، وواقع سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو هذا، فقد كَانَ يبين للناس بفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أوضح أنواع البيان، ويبين بأقواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبتقريراته، فما ترك شيئاً من الدين إلا وقد بينه، وأعظم شيء في ذلك هو بيان ما يتعلق بعالم الغيب الذي لا تدركه العقول، ولا يمكن أن تبلغه الأفهام وهذا الذي أشار إليه المُصنِّف.

ثُمَّ ذكر أن أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وعالم الغيب عموماً نلزمهم بهذا الإلزام العقلي، إما أن يكون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بينه أو لم يبينه.
والثاني: أي: عدم الإبلاغ باطل.
وهذا المتفق عليه بين الْمُسْلِمِينَ أنه بلَّغ، وأنه معصوم في بلاغه، فهل هذا البلاغ كَانَ واضحاً جلياً مفصلاً؟
أم أنه بيَّن بألفاظ مجملة وعبارات محتملة، وقرر بتقريرات موهمة كما يقول نفاة الصفات؟!
فبقيت القضية دائرة بين طرفي البيان هل هو بيان شاف كاف واضح؟
أم أنه جَاءَ ببيان مجمل، وعبارات محتملة، وتقريرات موهمة، فحارت العقول واضطربت الأفهام في فهم هذه العبارات والكلمات والتقريرات التي جاءت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!